سورة المائدة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)}
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه لما سمع منهم هذا الكلام {قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى} ذكر الزجاج في إعراب قوله: {وَأَخِى} وجهين: الرفع والنصب، أما الرفع فمن وجهين:
أحدهما: أن يكون نسقاً على موضع {إِنّى} والمعنى أنا لا أملك إلا نفسي، وأخي كذلك ومثله قوله: {أَنَّ الله بَرِئ مّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] والثاني: أن يكون عطفاً على الضمير في {أَمْلِكُ} وهو أنا والمعنى: لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا، وأما النصب فمن وجهين: أحدهما أن يكون نسقاً على الياء، والتقدير: إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا، والثاني: أن يكون {أَخِى} معطوفاً على {نَفْسِى} فيكون المعنى لا أملك إلا نفسي، ولا أملك إلا أخي، لأن أخاه إذا كان مطيعاً له فهو مالك طاعته.
فإن قيل: لم قال لا أملك إلا نفسي وأخي، وكان معه الرجلان المذكوران؟
قلنا: كأنه لم يثق بهما كل الوثوق لما رأى من إطباق الأكثرين على التمرد، وأيضاً لعلّه إنما قال ذلك تقليلاً لمن يوافقه، وأيضاً يجوز أن يكون المراد بالأخ من يواخيه في الدين، وعلى هذا التقدير فكانا داخلين في قوله: {وَأَخِى}.
ثم قال: {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} يعني فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق وتحكم عليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم، ويحتمل أن يكون المراد خلصنا من صحبتهم، وهو كقوله: {وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين} [القصص: 21].


{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {فَإِنَّهَا} أي الأرض المقدسة محرمة عليهم، وفي قوله: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} قولان:
أحدهما: أنها منصوبة بالتحريم، أي الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة، ثم فتح الله تعالى تلك الأرض لهم من غير محاربة، هكذا ذكره الربيع بن أنس.
والقول الثاني: أنها منصوبة بقوله: {يَتِيهُونَ فِي الأرض} أي بقوا في تلك الحالة أربعين سنة، وأما الحرمة فقد بقيت عليهم وماتوا، ثم إن أولادهم دخلوا تلك البلدة.
المسألة الثانية: يحتمل أن موسى عليه السلام لما قال في دعائه على القوم {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} [المائدة: 25] لم يقصد بدعائه هذا الجنس من العذاب، بل أخف منه.
فلما أخبره الله تعالى بالتيه علم أنه يحزن بسبب ذلك فعزاه وهون أمرهم عليه، فقال: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} قال مقاتل: إن موسى لما دعا عليهم أخبره الله تعالى بأحوال التيه، ثم إن موسى عليه السلام أخبر قومه بذلك، فقالوا له: لم دعوت علينا وندم موسى على ما عمل، فأوحى الله تعالى إليه {لا تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} وجائز أن يكون ذلك خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل والله أعلم.
المسألة الثالثة: اختلف الناس في أن موسى وهارون عليهما السلام هل بقيا في التيه أم لا؟ فقال قوم: إنهما ما كانا في التيه، قالوا: ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه عليه السلام دعا الله يفرق بينه وبين القوم الفاسقين، ودعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مجابة، وهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان معهم في ذلك الموضع، والثاني: أن ذلك التيه كان عذاباً والأنبياء لا يعذبون، والثالث: أن القوم إنما عذبوا بسبب أنهم تمردوا وموسى وهارون ما كانا كذلك، فكيف يجوز أن يكونا مع أولئك الفاسقين في ذلك العذاب.
وقال آخرون: إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه إلا أنه تعالى سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها برداً وسلاماً، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنهما هل ماتا في التيه أو خرجا منه؟ فقال قوم: إن هارون مات في التيه ثم مات موسى بعده بسنة، وبقي يوشع بن نون وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته، وهو الذي فتح الأرض المقدسة.
وقيل: إنه ملك الشأم بعد ذلك.
وقال آخرون: بل بقي موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة والله أعلم.
المسألة الرابعة: قوله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} الأكثرون على أنه تحريم منع لا تحريم تعبد، وقيل: يجوز أيضاً أن يكون تحريم تعبد، فأمرهم بأن يمكثوا في تلك المفازة في الشدة والبلية عقاباً لهم على سوء صنيعهم.
المسألة الخامسة: اختلفوا في التيه فقال الربيع: مقدار ستة فراسخ، وقيل: تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخاً. وقيل: ستة في اثنى عشر فرسخاً، وقيل: كانوا ستمائة ألف فارس.
فإن قيل: كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في هذا القدر الصغير من المفازة أربعين سنة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يجد طريقاً إلى الخروج عنها، ولو أنهم وضعوا أعينهم على حركة الشمس أو الكواكب لخرجوا منها ولو كانوا في البحر العظيم، فكيف في المفازة الصغيرة؟
قلنا: فيه وجهان:
الأول: أن انخراق العادات في زمان الأنبياء غير مستبعد، إذ لو فتحنا باب الاستبعاد لزم الطعن في جميع المعجزات، وإنه باطل.
الثاني: إذا فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد فقد زال السؤال لاحتمال أن الله تعالى حرّم عليهم الرجوع إلى أوطانهم، بل أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة مع المشقة والمحنة جزاءً لهم على سوء صنيعهم، وعلى هذا التقدير فقد زال الاشكال.
المسألة السادسة: يقال: تاه يتيه تيهاً وتيهاً وتوها، والتيه أعمها، والتيهاء الأرض التي لا يهتدى فيها.
قال الحسن: كانوا يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا، وكانت حركتهم في تلك المفازة على سبيل الاستدارة، وهذا مشكل فإنهم إذا وضعوا أعينهم على مسير الشمس ولم ينعطفوا ولم يرجعوا فإنهم لابد وأن يخرجوا عن المفازة، بل الأولى حمل الكلام على تحريم التعبد على ما قررناه، والله أعلم.


{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)}
قوله تعالى: {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق} وفي الآية مسائل المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه:
الأول: أنه تعالى قال فيما تقدم {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} [المائدة: 11] فذكر تعالى أن الأعداء يريدون إيقاع البلاء والمحنة بهم لكنه تعالى يحفظهم بفضله ويمنع أعداءهم من إيصال الشر إليهم، ثم إنه تعالى لأجل التسلية وتخفيف هذه الأحوال على القلب ذكر قصصاً كثيرة في أن كل من خصه الله تعالى بالنعم العظيمة في الدين والدنيا فإن الناس ينازعونه حسداً وبغياً، فذكر أولاً قصة النقباء الاثنى عشر وأخذ الله تعالى الميثاق منهم، ثم إن اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللعن والقساوة، وذكر بعده شدة إصرار النصارى على كفرهم وقولهم بالتثليث بعد ظهور الدلائل القاطعة على فساد ما هم عليه، وما ذاك إلا لحسدهم لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما آتاه الله من الدين الحق، ثم ذكر بعده قصة موسى في محاربة الجبارين وإصرار قومه على التمرد والعصيان، ثم ذكر بعده قصة ابني آدم وأن أحدهما قتل الآخر حسداً منه على أن الله تعالى قبل قربانه، وكل هذه القصص دالة على أن كل ذي نعمة محسود، فلما كانت نعم الله على محمد صلى الله عليه وسلم أعظم النعم لا جرم لم يبعد اتفاق الأعداء على استخراج أنواع المكر والكيد في حقه، فكان ذكر هذه القصص تسلية من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم لما هم قوم من اليهود أن يمكروا به وأن يوقعوا به آفة ومحنة.
والثاني: أن هذا متعلق بقوله: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير} [المائدة: 15] وهذه القصة وكيفية إيجاب القصاص عليها من أسرار التوراة، والثالث: أن هذه القصة متعلقة بما قبلها، وهي قصة محاربة الجبارين، أي اذكر لليهود حديث ابني آدم ليعلموا أن سبيل أسلافهم في الندامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعصية كان مثل سبيل ابني آدم في إقدام أحدهما على قتل الآخر.
والرابع: قيل هذا متصل بقوله حكاية عن اليهود والنصارى {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينتفع ولد آدم عند معصيته بكون أبيه نبياً معظماً عند الله تعالى.
الخامس: لما كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم حسداً أخبرهم الله تعالى بخبر ابن آدم وأن الحسد أوقعه في سوء العاقبة، والمقصود منه التحذير عن الحسد.
المسألة الثانية: قوله: {واتل عَلَيْهِمْ} فيه قولان:
أحدهما: واتل على الناس.
والثاني: واتل على أهل الكتاب، وفي قوله: {ابنى ءادَمَ} قولان: الأول: أنهما ابنا آدم من صلبه، وهما هابيل وقابيل. وفي سبب وقوع المنازعة بينهما قولان:
أحدهما: أن هابيل كان صاحب غنم، وقابيل كان صاحب زرع، فقرب كل واحد منهما قرباناً، فطلب هابيل أحسن شاة كانت في غنمه وجعلها قرباناً، وطلب قابيل شر حنطة في زرعه فجعلها قرباناً، ثم تقرب كل واحد بقربانه إلى الله فنزلت نار من السماء فاحتملت قربان هابيل ولم تحمل قربان قابيل، فعلم قابيل أن الله تعالى قبل قربان أخيه ولم يقبل قربانه فحسده وقصد قتله، وثانيهما: ما روي أن آدم عليه السلام كان يولد له في كل بطن غلام وجارية وكان يزوج البنت من بطن الغلام من بطن آخر، فولد له قابيل وتوأمته، وبعدهما هابيل وتوأمته، وكانت توأمة قابيل أحسن الناس وجهاً، فأراد آدم أن يزوجها من هابيل، فأبى قابيل ذلك وقال أن أحق بها، وهو أحق بأخته، وليس هذا من الله تعالى، وإنما هو رأيك، فقال آدم عليه السلام لهما: قربا قرباناً، فأيكما قبل قربانه زوجتها منه، فقبل الله تعالى قربان هابيل بأن أنزل الله تعالى على قربانه ناراً، فقتله قابيل حسداً له.
والقول الثاني: وهو قول الحسن والضحاك: أن ابنى آدم اللذين قربا قرباناً ما كان ابني آدم لصلبه، وإنما كانا رجلين من بني اسرائيل. قالا: والدليل عليه قوله تعالى في آخر القصة {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جميعاً} [المائدة: 32] إذ من الظاهر أن صدور هذا الذنب من أحد ابنى آدم لا يصلح أن يكون سبباً لإيجاب القصاص على بني إسرائيل، أما لما أقدم رجل من بني إسرائيل على مثل هذه المعصية أمكن جعل ذلك سبباً لإيجاب القصاص عليهم زجراً لهم عن المعاودة إلى مثل هذا الذنب. ومما يدل على ذلك أيضاً أن المقصود من هذه القصة بيان إصرار اليهود أبداً من قديم الدهر على التمرد والحسد حتى بلغ بهم شدة الحسد إلى أن أحدهما لما قبل الله قربانه حسده الآخر وأقدم على قتله، ولا شك أنها رتبة عظيمة في الحسد، فإنه لما شاهد أن قربان صاحبه مقبول عند الله تعالى فذلك مما يدعوه إلى حسن الاعتقاد فيه والمبالغة في تعظيمه، فلما أقدم على قتله وقتله مع هذه الحالة دل ذلك على أنه كان قد بلغ في الحسد إلى أقصى الغايات، وإذا كان المراد من ذكر هذه القصة بيان أن الحسد دأب قديم في بني إسرائيل وجب أن يقال: هذان الرجلان كانا من بني إسرائيل.
واعلم أن القول الأول هو الذي اختاره أكثر أصحاب الأخبار، وفي الآية أيضاً ما يدل عليه لأن الآية تدل على أن القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلم ذلك من عمل الغراب، ولو كان من بني إسرائيل لما خفي عليه هذا الأمر، وهو الحق والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله: {بالحق} فيه وجوه:
الأول: بالحق، أي تلاوة متلبسة بالحق والصحة من عند الله تعالى.
والثاني: أي تلاوة متلبسة بالصدق والحق موافقة لما في التوراة والإنجيل.
الثالث: بالحق، أي بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد، لأن المشركين وأهل الكتاب كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبون عليه.
الرابع: بالحق، أي ليعتبروا به لا ليحملوه على اللعب والباطل مثل كثير من الأقاصيص التي لا فائدة فيها، وإنما هي لهو الحديث، وهذا يدل على أن المقصود بالذكر من الأقاصيص والقصص في القرآن العبرة لا مجرد الحكاية، ونظيره قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِى الالباب} [يوسف: 111].
ثم قال تعالى: {إِذْ قَرَّبَا قربانا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إذ: نصب بماذا؟ فيه قولان الأول: أنه نصب بالنبأ، أي قصتهم في ذلك الوقت.
الثاني: يجوز أن يكون بدلاً من النبأ أي واتل عليهم من النبأ نبأ ذلك الوقت، على تقدير حذف المضاف.
المسألة الثانية: القربان: اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة، ومضى الكلام على القربان في سورة آل عمران.
المسألة الثالثة: تقدير الكلام وهو قوله: {إِذْ قَرَّبَا قربانا} قرب كل واحد منهما قربانا إلا أنه جمعهما في الفعل وأفرد الاسم، لأنه يستدل بفعلهما على أن لكل واحد قربانا. وقيل: إن القربان اسم جنس فهو يصلح للواحد والعدد، وأيضاً فالقربان مصدر كالرجحان والعدوان والكفران والمصدر لا يثنى ولا يجمع.
ثم قال تعالى: {فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخر} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قيل: كانت علامة القبول أن تأكله النار وهو قول أكثر المفسرين.
وقال مجاهد: علامة الرد أن تأكله النار، والأول أولى لاتفاق أكثر المفسرين عليه. وقيل: ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرب به إلى الله تعالى، فكانت النار تنزل من السماء فتأكله.
المسألة الثانية: إنما صار القربانين مقبولاً والآخر مردوداً لأن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال.
قال تعالى هاهنا حكاية عن المحق {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} وقال فيما أمرنا به من القربان بالبدن {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} [الحج: 37] فأخبر أن الذي يصل إلى حضرة الله ليس إلا التقوى والتقوى من صفات القلوب قال عليه الصلاة والسلام: «التقوى هاهنا» وأشار إلى القلب، وحقيقة التقوى أمور:
أحدها: أن يكون على خوف ووجل من تقصير نفسه في تلك الطاعة فيتقى بأقصى ما يقدر عليه عن جهات التقصير.
وثانيها: أن يكون في غاية الاتقاء من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة الله تعالى.
وثالثها: أن يتقى أن يكون لغير الله فيه شركة، وما أصعب رعاية هذه الشرائط! وقيل في هذه القصة: إن أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه، والآخر جعل قربانه أردأ ما كان معه. وقيل: إنه أضمر أنه لا يبالي سواء قبل أو لم يقبل ولا يزوج أخته من هابيل. وقيل: كان قابيل ليس من أهل التقوى والطاعة، فلذلك لم يقبل الله قربانه.
ثم حكى الله تعالى عن قابيل أنه قال لهابيل {اقتلنك} فقال هابيل {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} وفي الكلام حذف، والتقدير: كأن هابيل قال: لم تقتلني؟ قال لأن قربانك صار مقبولاً، فقال هابيل: وما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. وقيل: هذا من كلام الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم اعتراضاً بين القصة، كأنه تعالى بيّن لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه إنما لم يقبل قربانه لأنه لم يكن متقياً. ثم حكى تعالى عن الأخ المظلوم.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12